قراءة فى ديوان من أطفأ القمر
بقلم :عبد الرحمن هارون
يطل علينا الشاعر من جديد بديوانه (من أطفأ القمر) لنغوص معه في وجدانه التي سرعان ما يحلق حوله القارئ في أفاق رحبة فيحيا معه هائماً في كل قصيدة كأن القارئ ناظمها ، بل أن مشاعرك ستتبدل داخل القصيدة الواحدة حسب مجرياتها فرفعة مفردات شاعرنا وتنوعها واختيار الأنسب منها والذي يتم وفقاً لموضوع القصيدة وما تتميز به من نغم وموسيقى داخلية ستجعلك في نهمٍ دائم لقراءتها مرات عديدة.
فما أعذبه من شعر وما أجملها من عاطفة وكعادته تجده رقيقا في قصائده الغزلية و إن كان ثائراً في بعضها وتجده ضاربا بأحرفٍ من نار ضد أعداء الأمة العربية و ما أجمله من شعر فلسفي حين يغترب داخل الإنسان ، فتجربته الذاتية في كل قصيدة غزلية وفلسفية كأنها تجربتك أنت حتى ولو لم تتعرض لمثلها فقصائده الوطنية تجسد بحق مشاعر أمة عبث بها التاريخ فهل وجدت من شاعرٍ يجسد نشرة أخبار في قصيدة فياله من شاعرٍ في غوص عميق وعاطفة سرمدية يكاد لا يهنأ بسببهما و عجباً أن تجده مع فيض إنتاجه الشعري - سواء ما نشر في ديوانيه أو ما سوف ينشره في ديوانه الثالث أو الذي يأبى أن ينشره-متألقا في القانون ذا سجل حافل من القضايا الهامة و ابحاث و رسائل من ماجستير و دكتوراة.
لتتساءل وأتساءل معك بحق عن من هذا الرجل الذي يجمع الموهبتين القانونية و الشعرية. فما أشقى صاحب الديوان رغم تجلده وما أسعده رغم حزنه وما أحزنه رغم فرحه ، نعم هكذا حال قصائده كما طبعه، دائما يرفع للأدب راية ودائما ما يسكن في جُب الشعور فياله من مستهام خلوق غير متصنع حلو الشمائل مطيب. فتأمل عذب شعره حين تقف على التشبيه الممتد في موسيقى ترنيمية خلابة حين يقول واصفا خطاباً منه:
يا فؤادي الدامي لا تَبكِ أواصرَها
فقدْ طابَ لخطابِكَ قرارُها بسرعانِ
مثل زَبَدٍ في بحرٍ عَصَفَتْ هوائجهُ
في يومِ ريحٍ ثُمَّ حطَّ على الشطآنِ
فأحرَقَتْ شمسُهُ الحمآءُ قوامَهُ
فلمْ يعدْ لهُ من البقاءِ ثَمَّ كيانِ
وما أجمله في اعتزازه بعاطفته وشعره الذي يطاول النجوم :
وتَذكِّري.. أنني مازلتُ أنا.. كما أنا
رغمَ الصدِّ شاعرُ السلوانِ مِغوارُ
فاروي حدائقَ الشعرِ عني إنما
إليكِ دمائي إنْ جَفّتْ لديكِ أنهارُ
وهلا وقفت معي وهو يشطر البيت في عبقرية موسيقية بمعنيين متعارضين يدوران بين الفرح والقنوط في آن واحد وذلك في العديد من القصائد منها:
إنَّ أشواقي في البُعدِ عنكَ تستعرُ
و تَستعرُ الأشواقُ إذا ما كنتَ دَانيها
كلما أشعلتُ فيكِ الهجاءَ غفلةً
أعيدُ هديَ الكلماتِ وأخفي معانيها
أصونُ دمعيَ في بعضِ القصائدِ عنوةً
و يخونُني الدمعُ في عنوةٍ لباقيها
فما بالك عزيزي القارئ و أنت تقف على تلك المشاعر المشطورة بين نصف قصيدة تدور في مشاعر الشوق العارم ثم في الحزن المميت في نصفها الآخر وذلك يتجلى في قصيدة (سلوان يا أكذوبة في الحب كبرى) . واصفا يوماً عصيباً بعد عام فراق نهار هذا اليوم أثناء ركوب السيارة قائلا :
يا مَركبةَ الدربِ : أسرعي و اسرعي
إنَّ نبضي مع ومضِ الطريقِ سيّارُ
إستبقِي الثواني فسوفَ ألقى مليكتِي
وكِلانا من الشوقِ يحرقُهُ انتظارُ
ويصف ليلة هذا اليوم في نفس القصيدة قائلا :
ليلةُ مطرٍ و صوتُ الرعودِ دقاتي
أَ هُوَ المطرُ أمْ أنَّ الدموعَ أمطارُ؟
المنى كلُها غامتْ من صدى آهاتي
أسلوانُ ضاعتْ ؟. أم ضِعْتُ أنا و القرارُ؟
ثم يلاحق النصف الأخير من قصيدة( سلوان يا أكذوبة في الحب كبرى) في اليوم التالي لها بنظم قصيدة اخرى (كذب اليقين) في معارضة نفسية أخرى بين يومين متتالين يرفض خلالها تصديق الخبر:
عُودي و اخبري عن وفائكِ للورى
وأنّه لم يُبْعِدْ بيننا إلا السَفرْ
والحبُ في فؤادِكِ لم يزلْ يجتوي
ولا يحَمِلُ فؤادُكِ غيري من البشرْ
قولي : العُرسُ ليسَ عرسُكِ إنما
كَذِبَ من رأى أو من أطلقَ الخبرْ
كما برع في وصف المواقف الحسية كما في قصيدة ( اللقاء الأول) وقصيدة (أنفاسي الأخيرة) واصفاً حادث انقلاب سيارة تعرض له مازجا بين الواقع وفلسفة النهاية و قصيدة (تجهلني ويكذب حرفها) بقوله في الأخيرة:
دعيني أسكُبُ من قصةِ أمسِنا
ألحاناً تُغني للعصافيرِ وتبكيها
أيا دارَ أحبةٍ ظلتْ تغازُلنا
كيفَ تجهلُني منْ على الدنيا أُعَلِّيها
ما أروعه حتى حين يتحدث على لسان من يحاورها في القصيدة حيث تجلى ذلك في قصيدة( محكمة ) وعلى لسانها وهي تخاطبه في قصيدة (حنين الأربعاء) فيقول في هذه الأخيرة :
كنتُ إذا أشعلتُ أَلِفاً في الهوى
تُدرِكُ ما سوفَ يَكونُ عليه يائي
و الآنَ تَشقى من الحنينِ لوعةً
وأنا مسلوبةٌ إلى فَيضِ الرجاءِ
و مثلُكَ بليلِ الأنينِ ساهمةٌ
و أنسِجُ من خيوطِ الأشواقِ ردائي
تأمل معي قضية عاطفية مشوقة في قصيدة (محكمة ) و تأمل وهمه رغم معاناته والذي أراده في قصيدة (سيبقى شوق بيننا) وقصيدة (أتحداكِ ) وما أحزنه في قصائده الفلسفية ( مرايا ) و(سفر..سفر) و(من أكون). وتأمل معي ذكاءه الشعري الفريد في إدخال أكثر من بيت في بيت واحد بقافيتين في موسيقى داخلية رائعة :
غيداءَ الندى كسنا الكوكبِ
كالإشراقِ ..كهدية القدَرْ
ترفُ خدِها كشعاعِ الغيهبِ
كالرقراقِ ..كنورِ السحَرْ
فلو وقفت عند لفظ ( كالإشراق ) في البيت الأول ثم قرأت البيت الثاني ووقفت عند ( كالرقراق) لاكتمل البيتان على بحر ووزن يختلفان فيما لو أكملت البيت الأول بـ (كهدية القدر) وأكملت الثاني بـ(كنور السحر).وهو الأمر ايضا في :
لا تدعني بعدَما نَسِيتُ الرحيقْ
أفيقْ. إلى مُوجعاتٍ صِرتَ تُبديها
تمرُّ ليالي و خيالي في الطريقْ
رفيقْ. لا ندري كيفَ نَطويها
وكغيره من شعراء الرعيل الأول وما يعشقون في الكتابة عن الذكريات ستهيم معه في قصيدة بل ملحمة ( و تذكري ) وهي عمودية ومع شعر التفعيلة عن الذكريات أيضا( هنا مهد حبك الأول) و تعالى ننتظر معه ( القطار) و نتساءل معه عن ( أي القصائد أعجبتك).
وعن شعره الوطني فقد تأثر بما يجري من حوله فكتب رأيه في (اتفاقية أسلو) و لم يترك الحدث الباكي باحتلال العراق دون قصيدة (من يشتري بغداد) ولا واقعة الرشق بالحذاء التي نفذها الصحفي العراقي منتظر الزيدي فأنشد قصيدة ( قبلة حذاء) ورسالته الرائعة (الخنزير) وقصيدته (كسوفو) برغم أنه قد نظمها قبل نحو خمسة وعشرين عاما وعثر عليها مؤخرا.
يا لهدية القدر لي بمعرفتي به ويا لحظي السعيد حين ألقاه ويا له من روح وعذوبة و شخصية ملك بهم القلوب.
فتعالى نسمو إلى القمر لنعرف من أطفأ القمر.
.................................................................
ـ نُشرت هذه الدراسة فى موقع الشاعر عبد الرحمن أبو المجد وتناقلتها العديد من المواقع :
http://bloggermgd.blogspot.com/2011/08/blog-post.html
ـ نُشرت هذه الدراسة فى موقع دنيا الرأى رابط :
http://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2011/10/01/238861.html